الآن يمكنكم متابعتنا على الفيسبوك

الميزان من السماء- من رؤى الجبهة البيضاء


قبل الخوض في هذا الموضوع الخطير لا بد من بيان أن هناك أبجدية يجب التسليم بها بحكم إيماننا بالقرآن الكريم، وهي أن (الميزان من السماء)، وقد قال الله تعالى: " الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب".

إن هذا الإنزال معناه أن العدالة يجب أن ترتبط بالسماء في صرامته وعدلها وقوتها ، وكما أن السماء أعلى من كل عال وكبير فإن ميزان السماء هو أيضا جزء منها، تماما كما نقول إن الطائرة والسفارة جزء من التراب الوطني ولها حكمه في العدوان عليها، لذلك فإن الميزان له حكم السماء لأنه جزء منها.

ولأن المصدر واحد فإن اللغات في غالبها تجتمع حول كلمة القسطاس ولا تخرج عنه، ففي الإنجليزية والفرنسية كلها نجد كلمة (جيستس) التي تعني ذلك.

إن المنزل من السماء هو الميزان لا الذي يحمله، ولو كان بالإمكان أن يقوم الميزان بالعدل بين الناس دون تدخل عنصر بشري لكان ذلك أفضل، لكن لامتناع ذلك ،كلما كان العنصر البشري الذي يحمل الميزان بعيدا عن أنانيته البشرية وقريبا من الجماد أو الرجل الآلي الذي لا يعرف وساطة أو رشوة ،كان الأمر أفضل، وهذا ما جعل البعض يختار للعدالة شعار المرأة معصوبة العينين التي تحمل الميزان..

إن تحويل الميزان من معنى السماء إلى معنى الأرض هو الذي يقضي على العدالة ومعناها، تحويل الميزان من الحكم باسم السماء وما فيها من حياد وعدل وسمو وسلطة وتعال إلى الأرض وما فيها من الشرور والقصور البشري هو الذي يحوّل العدالة من معناها السامي إلى معناها الترابي.

إن العدل شريعة السماء، لذلك يكون القاضي حاكما باسم السماء لا باسم أي سلطة أرضية، وإذا كان الأمر كذلك فإن كل من في الأرض ومهما علا شأنهم يكونون سواسية تحت سلطة العدل.

هذه جدلية خطيرة جدا،وهي التي ترسي مفهوم العدالة في أذهان الناس وتعطي القانون روحه وقوامته.

وعبر التاريخ كان الذين يحكمون ويقضون ويتصرفون باسم (الفرعون) لا يلتزمون من العدالة إلا ما يوافق الفرعون ورغباته ومعارفه، فلا يمكن مثلا أن يحكم قاض على ابن الحاكم حتى لو أنه انتهك القانون وتجاوز الحدود، وهنا ينقسم الناس إلى قسمين، قسم يحكم فيه القاضي باسم الحاكم سواء بقرابتهم من الحاكم أو معاداتهم له، وقسم آخر يحكم فيهم القاضي بهواه مدعيا أنه يطبق عدالة السماء.

لهذا السبب رفض النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة زيد بن ثابت وهو مقرب منه، وقال : " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

بهذا المعنى يكون العدل هو القاضي الفعلي بينما البشر مجرد أدوات لإقراره وتطبيقه، ويكون الحاكم مهما علا ضعيفا أمام العدل والقانون وهو ما يجعل الحياة مبنية على التساوي في الحقوق بدل أن يأكل القوي فيها الضعيف باسم القانون والعدل.

إن جميع المسؤوليات والمؤسسات التنفيذية والقضائية والتشريعية يجب أن تكون نائبة عن العدل لا عن الحاكم، وهو الأمر الذي يمنع من أي فساد أو تحوّل نخبة متنفذة من الناس إلى لوبي فوق القانون.

هنا، وحين يحدث هذا الخرق باسم القانون، يتحول الناس من مستأنسين بالقانون واثقين فيه، إلى أعداء له يصارعون لتحطيمه لأنه في نظرهم مجرد مؤسسة من مؤسسات التفريق بين الناس والقمع للضعفاء.

الحاكم نفسه يجب أن يدرك أن إرساء القانون العادل سيكون في مصلحته حين يضعف هو وبطانته وينزلون عن سدة الحكم،لذلك نرى الحكام في البلدان التي يسود فيها القانون يتقاعدون دون هواجس، بينما يحسب الحاكم في البلاد التي أرسى فيها قانون الغاب ألف حساب لخروجه من السلطة، لأن القانون الوحشي الظالم الذي أرسى هو أسُسه سيكون ضده وسيكون أداة في يد الحاكم الجديد ومن حوله ليؤذوه وينتقموا منه به.

إن هذا القانون إذن تحول من عنصر أمان للجميع إلى عنصر نفوذ وقمع في يد شخص أو مجموعة، وما دام الأمر كذلك فإن هذا الشخص سيدرك أنه يوم أن ينزل عن كرسي الرئاسة أو الوزارة أو الإدارة أو حتى القضاء سيفقد نفوذه وعصاه، بل إن هذه العصا قد تتحول إلى شخص جديد يلوح بها على رأسه ويقمعه بها انتقاما وثأرا.

إن تحويل المنصب،أي منصب من ارتباطه بالسماء إلى ارتباطه بالحاكم ومن حوله هو في الحقيقة إعدام لأي صمام أمان دائم في المجتمع، لذلك لا يجد الأقوياء بعد ضعفهم من يحميهم، ولو أنهم حينما كانوا أقرياء أرسوا مؤسسات عادلة لانتهى مصيرهم بعد ضعفهم وهوانهم في يد تلك المؤسسات العادلة فرحمتهم.

إن ما يحدث اليوم لرئيس مصر السابق حسني مبارك وعائلته لهو أكبر مثال على هذا الأمر الذي نثيره هنا، ولو أن هذا الرئيس أرسى قواعد العدل في مؤسساته التنفيذية والقضائية والتشريعية لوجد اليوم من هذه المؤسسات ما يحميه ويحفظ له كرامته ويرحم شيبته.

إن الحاكم الذي يسن في مؤسساته سنن الفساد وينشر الرشوة والمحسوبية والجور، عليه أن يتحمل ذلك حين يسقط عن كرسيه ويتحول إلى متهم في قفص، فآنذاك لن يجد من قوانين العدل والرحمة ما يكون في صفه.

لهذا قيل أن (العدل أساس الملك)، ولا يمكن لدولة أن يستقيم أمرها ما دامت أحكامها قائمة على الجور والتفريق بين الناس من حيث مراتبهم وسلطاتهم وقوتهم ونفوذهم، وهو ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه
الحد".

إن الجبهة تتبنى معنويا شعار المرأة العمياء التي تحمل الميزان ،ليس في مجال القضاء بل في كل المجالات السلطوية، لأن من الخطإ حصر العدل فقط في المؤسسة القضائية، فماذا عن شاب يتقدم لامتحان توظيف بعلامات ممتازة ثم يُحرم من هذه الوظيفة التي تذهب ظلما إلى شخص آخر بناء على تدخل متنفذ أو قرار جائر؟ أليس هذا من الظلم المنافي للعدل في مؤسسة ليست قضائية.

إن الجبهة البيضاء تثير مشكلة الجور في كافة المؤسسات ومناحي الحياة.

إن العينين المعصبتين لهذه المرأة تدلان على أنها لن تبني أحكامها على أي مظهر يخل بالميزان الذي في يدها، فهي لن ترى المتخاصمين اللذين يقفان أمامها، لذلك لن تميل إلى أحدهما أو تجور على الآخر، بل هي فقط تستند إلى ما في يدها من ميزان.

إن المرتبط بالعينين من مظهر يدل على جنس أو طائفة أو غنى أو سلطة وجاه ،كل ذلك مما لا يجب النظر إليه في إحقاق العدالة، والمعتبر حينها هو فقط الحق والظلم..فالمسلم وغير المسلم أمام العدالة سواء، والأبيض والأسود، والغني والفقير ،والقريب والبعيد،والحاكم والمحكوم، لأن العدالة لا ترى بل هي فقط ترفع الميزان.

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...
Copyright 2009 Simplex Celebs All rights reserved Designed by SimplexDesign